الأدب الإسلامي

 

الإسلام يمتاز بالحرص على صلة الرحم ، عن الأديان كلها

[ 3/3 ]

 

بقلم : معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر

الرياض ، المملكة العربية السعودية

 

     وهنا استخرج ذوي الرحم من عامّة المسلمين، مع أهمّية الصدقة عليهم في المجتمع ، وميزهم بأنها لهم ذات شقين كريمين .

     وتنحدر العادات الحميدة في الجاهلية إلى عصر الإِسلام فيحليها بحليته ، ويصبغها بصبغته ، فيعترف بها لأنها حميدة ، ويبقي على ضياء صلة الرحم فيها، والتقدير الجم للقربى والنسب ، وإذا لم تكن حميدة فإنه ينبذها ، أو يصفى شائبها ، ويَجْلِي صدأها ، ويحل محلها عروسًا مجلية ، تَسُرُّ عَيْنَ الناظر إن نظره ، وسمعه إن ألقاه ليسمع ، والقصة التالية تُرِي راسب الماضي بكدره ، وصافي الحاضر بنقائه وحلاوته ، في ضوء الإِسلام وتعاليمه :

     «دخل عمروبن العاص على معاوية ، وعنده بُنَيَّة له يلاعبها ، فقال له : انبذها عنك ، يا أمير المؤمنين ، فوالله إنهن يلدن الأعداء ، ويقربن البعداء، ويؤدين الضغائن .

     فقال معاوية : لا تقل [هذا] فما ندب الموتى ، ولا تَفَقَّد المرضى ، ولا أعان على الحزن مثلهن».(1)

     وهذا القول كان ارتجالاً – إذا صح أنه حديث بين الرجلين – ولم يحضِّر أحدهما لذلك ، فعمرو فوجئ بالمنظر الذي لعله يخالف ما درج عليه عمرو مع بناته ، ولعل عمرًا ما زال حينئذ متأثرًا بنظرة الجاهلية إلى المرأة ، فنظر إلى الجانب المظلم من عيوب المرأة ، وانطلق رأيه منها ؛ مع أن العيوب متوافرة في الرجل والمرأة ، إلا أن تمكن أراء الجاهلية في المجتمع ، وما رسب منها في أذهان الناس ، احتاج إلى زمن طويل ، حتى يقضي على كل جانب منها ، خاصة ما يخص المرأة من عيوب .

     ومعاوية ارتجل الرأي في الرد ، ولم يأت إلا بقسم من مزايا المرأة ، لعله أبرز جانب في ذهنه في تلك اللحظة ، أو لعله أراد ألا يزيد عما نظر إليه عمرو ؛ فعَمرو اقتصر على العداوة ، ومعاوية اقتصر على الحزن . وصلة الرحم في ذهن معاوية هي منطلقه ، وهو منطلق الدين الحنيف .

     والنسب وهو القضيب الذي يسير عليه قطار صلة الرحم ، والمجرى الذي يمر من خلاله ماؤه ، والجسر الذي يعبر عليه العابر إلى رعاية هذه الفضيلة، ولعله في الحضارات القديمة عام وشائع، ومعترف به من جميع الأمم المتمدنة ، والخروج عنه يلفت النظر ويدعو للتساؤل ، ويتطلب الإِيضاح والتفسير، وفي «فارس» كان هذا قائمًا تدل عليه القصة الآتية :

     «اصطنع كسرى أوشروان رجلاً لم يكن له نسب، فقيل له في ذلك . فقال : اصطناعنا إياه نسب».(2)

     ولابد أن لدى الرجل فضيلة كبرى ، ونفع للمملكة عظيم ، عوضه عن النسب الذي ترى الفرس أهميته لتولي منصب قريب من الملك .

     والعرب ترى أن في القرابة قوة ، وعصبة تشد أزر العائلة ثم العشيرة ، ثم القبيلة ، ثم الأرومة أيًّا كان بعدها ، وتبدأ هذه بأبناء الرجل الواحد ؛ وهناك قصة تُروَى ، وهي على الألسن دائمًا ، يعرفها الطفل منذ أن يبدأ يعقل ، ولا أتوقع أن تكون خاصة بالأدب العربي ، لبداهة معناها ، وقربها للذهن ؛ ولعل أكثم بن صيفي توصل إليها عن طريق الرواية ، فأحسن الاستفادة منها ومنه انشرت في كتب التراث:

     «دعا أكثم بن صيفي أولاده عند موته ، فاستدعى بضمامة من السهام ، وتقدم إلى كل واحد أن يكسرها، فلم يقدر أحد على كسرها ؛ ثم بددها، وتقدم إليهم أن يكسروها ، فاستسهلوا كسرها .

     فقال : كونوا مجتمعين ليعجز من ناوأكم عن كسركم لعجزكم».(3)

     وللشعر مشاركة في هذا فيما يخص القبيلة وتعاضدها وتوثيق الصلة بين أفرادها ، يقول عبد العنبري :

إِذَا مَــــــا أَرَادَ الله ذُلَّ قِبـِــــيْلَــــــــةٍ

رَمَاهُمْ بِتَشْتِيْتِ الْهَوَى وَالْتَّخَاذُلِ(4)

     وهذا يزيد بن المهلب يوصي ابنه لما استخلفه في جرجان ، ويقول له :

     «انظر هذا الحي من اليمن ، فكن لهم كما قال العباس :

فَقَوْمُكَ إِنَّ الْمَرْءَ مَا عَاشَ قَوْمُهُ

وَإِنْ لاَمَهُمْ لَيْسُوْ لَـــهُ بِأَبَاعِدِ» (5)

     هذا هو الأمر السائد والوضع الطبيعي ؛ ولكن لكل قاعدة شذوذاً ، فلا كل إنسان يقبل النصح المؤدي إلى التآلف ، والتراحم ، والتلاحم ، فقد يختل هذا الميزن عند الناس ، فيعاني بعض الأقارب من قريبه ، فيتلفظ بما في نفسه من مكنون الغيظ ، ومخبوء الغضب ، ومتراكم الحنق ، فيقول:

     «الأب رِب ، والعم غم ، والأخ فخ ، والولد كمد ، والأقارب عقارب» .

     ويسايره الشاعر في قوله :

إِنَّ الأَقَارِبَ كَالْعَقَارِبِ

أَوْ أَضَــرَّ مِنَ الْعَقَـارِب

     وقد يقبل قول الشاعر الآخر في بعض الحالات:

يَقُوْلُوْنَ عِزٌّ فِي الأَقَارِبِ إِنْ دَنَتْ

وَمَا العِــزُّ إِلاَّ فِيْ فِـــرَاقِ الأَقَارِبِ

تَرَاهُمْ جَمِيْعًا بَيْنَ حَاسِـــدِ نِعْمَــةٍ

وَبَيْنَ أَخِيْ بُغْضٍ وَآخَــــــرَ عَائِب

     ويتمثل بقول أبي نواس :

وَمَا أَنَـا مَسْــرُوْرٌ بـِقُــرْبِ الأَقَارِب

إِذَا كَانَ لِيْ مِنْهُمْ قُلُوْبُ الأَبَاعِدِ» (6)

     وإذا كان صاحب «محاضرات الأدباء» قد جمع هذه الأقوال في الأقارب عمومًا ، فإنه جاء بنصوص شعرية أخرى ، تبين بعض الحالات التي يرى فيها بعض الشعراء أن الأباعد من الأهل خير من الأقارب:

     قال بشار :

رُبَّمَا سَــــرَّكَ البَعِيْـــــدُ وَأَصْـــلاَ

كَ القَرِيْبُ النَّسِيْبُ نَارًا وَعَارًا(7)

     وشاعر آخر يأتي بخلاف هذه الصورة فيذم من ينفع الأباعد دون الأقارب :

     قال ابن الأحوص :

مِنَ النَّاسِ مَنْ يَغْشَىٰ الأَبَاعِدَ نَفْعُهُ

وَيَشْقَى بـِــه بَعْــــدَ المَمَاتِ أَقَارِبُه(8)

     والإِدلال بالقرابة أمر يتمسك المسلم فيه بأدق شعرة ، فتوصله إلى غايته ، وكأنها إحدى أشطان البئر:

     قال رجل لآخر :

     «لست ترعى حقي وبيننا قرابة !

     قال : فإن أباك كان قد خطب أمي ، فلو تم الأمر لكنت أنت أنا».

     وتعرّض رجل لهشام ، وادّعى أنه أخوه، فسأله:

     «من أين ذلك ؟

     قال : من آدم !

     فأمر بأن يُعْطَىٰ درهمًا .

     فقال : لا يعطي مثلُك درهمًا .

     فقال : لو قسمتَ ما في بيت المال على القرابة التي ادعيتها لم ينلك إلا دون ذلك».(9)

     وتبرز صلة الرحم في المواقف الحرجة بأجلى مظاهرها ، ويدفأ الدم فيطغى دفؤه على برودة العداوة ، ويغلب ضياء القرابة على ظلمة الغضب، ويُغطي اللِّين على قساوة الحنق ، وتتساعد جوارح الجسم على جلب الفضيلة ، وإبعاد الرذيلة ، فيغلب الخير، ويندحر الشر، والقصة الآتية رمز واضح لهذا:

     «قتل رجل من العرب ابن أخيه ، فدُفِع إليه ليقيده ، فلما أهوى بالسيف أُرْعِدَتْ يداه ، فألقى السيف من يده ، وعفا عنه ، وقال :

أَقُــوْلُ لِلنَّفْسِ تَـــأْسَـــاةً وَتَـعْــزِيَـــةً

إِحْدَى يَــدَيَّ أَصَابَتْنِيْ وَلَمْ تُــــرِدِ

كِلاَهُمَا خَلَفُ مِــنْ فَقْدِ صَاحِبِـــهِ

هَذَا أَخِي حِيْنَ أَدْعُوْهُ وَذَا وَلَدِيْ» (10)

     وقصة حلم قيس بن عاصم المنقري مشهورة، فهي إن كانت تمثل جانب الحلم المتمكن منه ، فهي في الوقت نفسه ، تمثل كذلك تمكن صلة الرحم فيْه، والقصة كما يرويها الأحنف بن قيس تتمثل في الآتي:

     «قيل للأحنف : ما أحلمك :

     قال : تعلمت الحلم من قيس بن عاصم المنقري:

     بينا هو قاعد بفنائه ، محتب بكسائه ، أتته جماعة فيهم مقتول ، ومكتوف ؛ وقيل له :

     هذا ابنك قتله ابن أخيك .

     فوالله ما حلّ حبوته ، حتى فرغ من كلامه. ثم التفت إلى ابن له في المجلس ، فقاله :

     قم فأطلق عن ابن عمك ، ووار أخاك ، واحمل إلى أمه مئةً من الإِبل ، فإنها غريبة . ثم أنشأ يقول :

إِنِّي امْـــــرُؤٌ لاَ شَائِـــنٌ حَسَبِيْ

دَنِسٌ يُغَيِّـــــــــــرُهُ وَلاَ أَفِـــــــنُ

مِــنْ مِنْقَرٍ فِيْ بَيْتِ مَكْرُمَـــــةٍ

وَالْغُصْنُ يَنْبُتُ حَوْلَهُ الغُصُنُ

خَطَبَاءُ حِيْــنَ يَقُـــوْلُ قَائِلُهُمْ

بِيْضُ الْوَجُــوْهِ أَعِفَّــــــةٌ لُسُنُ

لاَ يَفْطُنُوْنَ لِعَيْبِ جَـــــارِهُمُ

وَهُمْ لِحفْظِ جِــــــوَارِهِ فُطُنُ

     ثم أقبل على القاتل فقال :

     قتلت قرابتك ، وقطعت رحمك ، وأقللت عددك ، لا يبعد الله غيرك».(11)

     وحق القرابة ، وصلة الرحم ، ونظرتهم إلى ذلك ، لخّصها قيس بن عاصم في هذه الكلمات القليلة التي وجهها إلى ابن أخيه ؛ ولقد كان قيس دقيقًا ، فرقع الخرق الذي قد يرى في القرابة مع زوجته وأم ابنه القتيل ، إذ أنها من قبيلة أخرى، فجعل الإِبل قائمة بإكمال ما هناك من نقص في القرابة ، فضمها إلى قرابة الأمومة للابن ، والزواج من الأب .

     وإذا كان مولى القوم منهم كما مر بنا في الحديث السابق ، فإن حلم قيس بن عاصم قد دله على ذلك ، في موقف تجلت فيه فضائل قيس ، والقصة الآتية تشرح ذلك :

     «قيل للأحنف بن قيس : ممن تعلمت الخلق الحسن ؟

     قال : من قيس بن عاصم المنقري ، قال :

     بينا هو ذات يوم جالس في داره إذ جاءته خادمة له بسفود عليه شواء ، فسقط من يدها ، فوقع على ابن له فمات ، فدهشت الجارية ، فقال:

     «لا روع عليك ، أنت حرة لوجه الله».(12)

     والنور لا تُعْرَفْ بهجتُه ، ولا تُدْرَكْ حقيقة ضيائه ، إلا بالظلمة ، وهي ضده ، وصلة الرحم لا يُعْرَفْ فضلُها ، ولا يُدْرَكْ قدرُها ، إلا بمعرفة العقوق، خاصة إذا جاء من أقرب رحم ، وبأعنف الصور ، والقصة الآتية فيها شيء من هذا :

     «عن الأصمعي قال :

     أخبرني بعضُ العرب أن رجلاً كان في زمن عبد الملك بن مروان ، وكان له أب كبير ، وكان الشاب عاقًّا بأبيه ، وكان يقال للشاب «منازل» ، فقال الشيخ ، وهو فرعان التميمي :

جَـــزَتْ رَحِمٌ بَيْنِــيْ وَبَيْــــنَ مُنَـازِلٍ

جَزَاءً لَمَا يَسْتَنْجِــــزُ الدَّيْــنَ طَالِبُـــهْ

ترَبَّتَ حَتَّى صَـارَ جعـــدًا شَمَــرْدلاً

إِذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ

تَظَلَّمَنِيْ مَــالِيْ كَــــذَا وَلَــوَى يَدِيْ

لَوَى يَــــــدَهُ اللهُ الَّــــذِيْ لاَيُغَالِبـــــهُ

وَإِنّيْ لَــــدَاعٍ دَعَـــوْةً لَـــوْدَعَـــوْتُهَــا

عَلَى جَبَـــلِ الـــرَّيَانِ لاَنْقَضَّ جَانِبُـهْ

     فبلغ ذلك أميرًا كان عليهم ، فأرسل إلى الفتى ليأخذه ، فقال له : «أخرج من خلف البيت» فسبق رسل الأمير .

     ثم ابتلي الفتى بابن عقه في آخر عمره(13)، فقال:

تَظَلَّمِنْــي مَــالِــيْ خَلِيـــجٌ وَعَقَّنِـــــيْ

عَلَى حِيْنَ كَانَتْ كَالِحنيِّ عَظَامِيْ

تَخَيَّرْتُـــــهُ وَازْدَدْتُـــــهُ لِيَــــزِيْـــــدَنِيْ

وَمَا بَعْضُ مَا يُزْدَادُ غَيْرَعَـــرَامِ» (14)

     وبعد :

     فصلة الرحم – كما رأينا – نور يقضي على الظلمة ، وسراج يضيء الديجور ، وعامل يفتل عرى المجتمع ، وعصبة تشد أجزاءه بعضها إلى بعض، وفضيلة تبعث الطمأنينة ، وتمهد أرضًا لينة لسعادة دائمة .

*  *  *

الهوامش :

(1)          محاضرات الأدباء : 137 . عيون الأخبار : 3/113 .

(2)          محاضرات الأدباء : 142 .

(3)          محاضرات الأدباء : 144 .

(4)          محاضرات الأدباء : 44 .

(5)          محاضرات الأدباء : 145.

(6)          محاضرات الأدباء : 145 .

(7)          محاضرات الأدباء : 145 .

(8)          محاضرات الأدباء : 146 .

(9)          محاضرات الأدباء : 147-148.

(10)      عيون الأخبار : 3/100.

(11)      عيون الأخبار : 3/401 .

(12)      سراج الملوك : 429 .

(13)      عن بر الوالدين وعقوقهم ، انظر كتاب «أي بني»:3/72.

(14)      عيون الأخبار : 3/98 .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية – رجب 1426هـ = يوليو – سبتمبر 2005م ، العـدد : 7–6 ، السنـة : 29.